إن تحليل وتفسير سياق التنمية
البشرية بالمغرب يمكننا من رصد خمسة توجهات، الأول في بداية الستينات حيث ظل
التوجه الرئيسي مركزا نحو استقطاب رؤوس الأموال والتنمية الاقتصادية، مبنيا على
تقوية البنية التحتية واستغلال الموارد الطبيعية، بحيث كان يفترض بالنمو الاقتصادي
أن يراعي التقدم الاجتماعي، غير أن العنصر البشري والحفاظ على الموارد الطبيعية لم
يحضيا بالاهتمام الكافي.
وفي خضم السبعينات انحصر مفهوم
التنمية بالمغرب في السياسات التربوية، الصحة، التقدم العلمي والتكنولوجي،
باعتبارهم عوامل أساسية في سبيل تحقيق الإنتاجية.
وإبتداءا من الثمانينات، تم توجيه
السياسات العمومية نحو النمو الاقتصادي عبر إرساء الركائز الماكرو اقتصادية وتطبيق
الإصلاحات المهيكلة، التي كان يفترض منها أن تشكل أرضية لإعادة توزيع الثروات.
ومع بداية التسعينات، تم التركيز على أهمية وضع الأسس
الديمقراطية لدولة الحق والقانون، حيث أصبح الحديث عن التنمية البشرية المستدامة
من خلال مبادئ الحريات العامة والحقوق السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.
وأخيرا، جاء مفهوم التنمية البشرية
كإطار لتوحيد كافة المفاهيم التقليدية للنمو مؤكدا على محورية وأهمية العنصر
البشري كهدف أسمى ووحيد.
عانى المغرب كسائر دول العالم الثالث
على مر هذه السنوات من سيادة العجز الاجتماعي من خلال سلبية المؤشرات المرتبطة
بالتنمية البشرية بحيث وصل مؤشر التنمية البشرية سنة 2005 إلى 0.646 وفي سنة 2013
سجل المؤشر 0.617، بالإضافة إلى ضعف البرامج والسياسات العمومية بشكل يهدد الأمن
والسلم المجتمعي، وسلبية حصيلة المعضلة الاجتماعية على جميع المستويات الفقر
والمعرفة، الصحة والبطالة وضعف المساهمة في النشاط الاقتصادي، الإقصاء وعدم
الاستقرار الاجتماعي.
ومما لاشك فيه أن بلوغ التغيير
المنشود لا يمكن إلا عن طريق جعل الإنسان في قلب العملية التنموية وتمكينه من
الوسائل الفكرية والاقتصادية لتنمية ذاته وذويه، فالاستثمار في الرأسمال البشري
يمكن اعتباره استثمارا في المستقبل، وهو ما سيمكن من إغناء التوجهات السابقة
وإعطائها بعدا أوسع، وذلك في سبيل إرساء مفهوم العدالة الاجتماعية وضمان الحقوق
الأساسية للمواطنين مع فسح المجال أكبر للفرص والاختيارات الفردية والجماعية.
في ظل هذه الأوضاع تم الإعلان عن
المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من طرف جلالة الملك يوم 18 ماي 2005 معطيا
الانطلاقة الفعلية لتنفيذ هذا البرنامج الذي جاء كمحاولة جادة لخلق شروط الاستقرار
الاجتماعي والنمو الاقتصادي والاعتراف بالمواطن كعنصر أساسي وضروري لأي تقدم
وتطور، ووضعه في صلب الاهتمامات الوطنية والسياسات العمومية.
لذا تعتبر المبادرة ورشا حديثا يرتكز
على مقاربات تدبيرية حديثة، تنطلق من فلسفتها ونهجها فهي مشروع يعمل على دمج
التنمية بالديمقراطية والمشاركة المواطنة، إن الهدف من وراء إعطاء الانطلاقة
الفعلية للمبادرة هو القضاء على الفقر، الاقصاء الاجتماعي، والهشاشة بمجموعة من
القيم ترمي إلى احترام كرامة الإنسان، وإرساء الثقة في النفس والمستقبل، مشاركة
الجميع في اتخاذ القرار، الحكامة الجيدة واستمرارية المبادرات والمشاريع المتبناة.
ترتكز فلسفة المبادرة الوطنية
للتنمية البشرية على خمسة قيم " الثقة، المشاركة، الكرامة، الاستمرارية،
الشفافية" وخمسة مبادئ " القرب، التشاور، الشراكة، التعاقد والحكامة
الجيدة "وأربعة برامج " محاربة الهشاشة، محاربة الاقصاء الاجتماعي
بالوسط الحضري، البرنامج الأفقي، وبرنامج محاربة الفقر بالوسط القروي " في
إطار المرحلة الأولى الممتدة مابين 2005-2010، ينضاف لها برنامج التأهيل الترابي
الذي تم اعتماده في إطار المرحلة الثانية 2010-2015، إضافة إلى ثلاث مناهج
التفاعلية التخطيط الاندماج.
وتعمل المبادرة الوطنية للتنمية
البشرية وفق مقاربتين تهدف الأولى دعم الولوج للخدمات الاجتماعية الأساسية وذلك من
خلال تعزيز الخدمات المقدمة من طرف الدولة والجماعات الترابية وكذا تحسين ظروف عيش
الساكنة، أما المقاربة الثانية فتقوم على تقوية قدرات المرأة والرجل على خلق
الأنشطة الملائمة لمعارفهم والمتوافقة مع خصوصية الجهة الذين ينتمون إليها.
ذات المقاربات تهدف كذلك إلى التقليص
من الفقر والتهميش عبر إنعاش الأنشطة المدرة للدخل في المناطق المستهدفة من طرف
المبادرة.
وفي
إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي تشكل أرضية عمل مرسخة لثقافة جديدة
تقوم على التدقيق والتقييم المواكب، وتنبثق عن الميادين المؤسسة للشراكة، الكرامة،
الثقة، التضامن،
القرب والمشاركة سعيا وراء تحقيق منجزات ملموسة ذات رمزية عالية
وإنهاء التفاوتات الاجتماعية والمجالية الغير مقبولة، هذه المبادرة تختزل الإرادة الحقيقية في محاربة
الفقر والإقصاء والتهميش بهدف تحقيق التنمية البشرية المستدامة،
فقد شكل خطاب جلالة الملك
المؤرخ في 18 ماي 2005 الأساس
والمبدأ لتدقيق وتقييم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من خلال
نصه على "...وتشبعا منا بثقافة
التقويم والمحاسبة لكل الفاعلين، في قيامهم بمسئولياتهم، التي نحرص على ترسيخها في
تدبير الشأن العام....".
هذه
التوجهات الرقابية الحديثة تتمثل أهميتها في تعزيز قيم الشفافية والحكامة الجيدة،
من خلال مجموعوعة من الأدوات التي ترتكز عليها المبادرة الوطنية المتمثلة في النظام
المعلوماتي ووضع إطار للنتائج مرتكز على مؤشرات للتبع مضبوطة، إضافة إلى الافتحاصات
والدراسات التقييمية المنجزة من طرف عدة فاعلين داخليين ودوليين، وذلك طبقا
للتوجيهات الملكية الداعية إلى ضرورة تقوية نظام الافتحاص والمراقبة المتعلق
بالمبادرة.
تعليقات
إرسال تعليق